Thursday, December 24, 2009

أستاذة في معهد العلوم الإجتماعية- الجامعة اللبنانية

لتحميل النص اضغط هنا

د. ماري أشقر

أستاذة في معهد العلوم الإجتماعية- الجامعة اللبنانية

مقدمة

تحاول هذه المقالة طرح سؤال أساسي يمكن أن يتبادر إلى ذهن كل باحث يحاول دراسة أي ظاهرة من ظواهر المجتمعات العربية وتحليلها, سواء أكانت إجتماعية أم إقتصادية أم سياسية, والتي تتعلق بالمفاهيم التي حددها علم الإجتماع الغربي لدراسة المجتمع, خصوصا, علم الإجتماع الأمريكي في العقد الأخير هل هي حقا علمية؟ ومن ثم, هل نستطيع تطبيقها على جميع المجتمعات؟ وهل التقنيات المختلفة وأدوات التحليل التي وضعها هذا العلم هي حقا تقنيات موضوعية وصحيحة تساعدنا على دراسة الظواهر الإجتماعية المختلفة, ومعرفة طبيعة المشكلات العديدة التي تواجهنا في هذا المجال أو ذاك؟ وقد آثرنا هنا الا نطرح الموضوع بشكل عام, بل أن نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تناول موضوع الرأي العام وكيفية قياسه. ويرجع ذلك لكونه مجالا حظي في الآونة الأخيرة باهتمام كبير من قبل الباحثين الإجتماعيين في بلادنا خصوصا في ميدان الأبحاث التطبيقية.

وقد أصبحت دراسات الرأي العام وتطبيق تقنيات العينة والإستبيان والتحليل الإحصائي التي تستخدم لقياس اتجاهات الرأي العام هاجس مراكز الأبحاث في المجالات العديدة, وقامت من أجل ذلك شركات تجارية متخصصة لتضع نفسها في خدمة الصناعة الإستهلاكية, ودراسة الأسواق والأمزجة العامة, كما في خدمة المعارك الإنتخابية ورجال السياسة أو في دراسات التخطيط والإدارة وفي وضع مشاريع التنمية... الخ. وكأن استخدام هذه التقنيات والأدوات قد أصبح الطريق إلى الدراسة الموضوعية والعلمية والمفتاح الأول لمعرفة المشاكل التي تواجه مجتمعاتنا. ومن ثم راح البعض يعتبرها الشرط الأساسي لإكتشاف الحلول لمشاكل الأمة. ومن هنا, كان من الضروري مناقشة هذه المقولات من خلال تناول موضوع الرأي العام. وما هذه المناقشة إلا محاولة أولية تهدف إلى طرح بعض التساؤلات أو وضع الخطوط العامة لكيفية الإجابة عنها. بيد أنها محاولة تهدف إلى تغيير مجرى النهر لا إلى تعميقه أو توسيعه أو منع الإنهيارات عن جوانبه. مما يجعلها تختلف عن تلك الإنتقادت التي توجه إلى هذه الأبحاث في محاولة للإبقاء على جوهرها مع تفسير قصورها بسبب الصعوبات المادية أو الإمكانات البشرية أو حداثة التجربة... الخ. بينما المطلوب هنا طرح الأسئلة الأساسية حول طبيعة المفاهيم المستخدمة والمنهج المتبع والتقنيات المطبقة. ألم يحن الوقت لأن نتخلص من عقدة "العلمية" و"الموضوعية" والتقنيات الفعالة والمفاهيم العالمية التي وضع لنا أسسها وشروطها علماء الإجتماع الغربيون. ألا يحق لنا أن نتساءل وقبل الشروع بأي بحث علمي هل هذه هي حقا الأدوات الافضل لمعرفة مجتمعاتنا وتحليل بنيتها ومؤسساتها ومشاكلها؟

أولا: الرأي والرأي العام كما يحددهما علم الإجتماع الغربي

الرأي هو دائما التزام فردي, أي أن الفرد يشعر أن هذا الرأي ملك له على الرغم من أنه يتكون بفعل تأثيرات خارجية أو يكون قد سمعه من شخص آخر لكنه يتبناه ويقتنع به ويدافع عنه. ويجب التفريق بين الأقوال والآراء, لأن هناك أشياء كثيرة يقولها الفرد منها معلومات قرأها أو سمع عنها, منها ما يقوله خوفا أو تمشيا مع أقوال الأكثرية فهذه ليست آراء. ولا يمكن القول إن كل تعبير شفوي هو رأي بل الرأي هو ما يشعر الفرد أنه مقتنع به اقتناعا تاما حتى لو تغير هذا الإقتناع بعد فترة من الزمن. وكذلك يجب التفريق بين الرأي والتصرف لأن هناك آراء لا تترجم إلى تصرفات وإن التصرفات يمكن أن تأتي أحيانا كثيرة مخالفة للآراء مع أن هذه الأخيرة تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في التصرف.

الرأي هو حكم على الأشياء لتقويمها رغم أنه يقدم نفسه وكأنه يتكلم عن الواقع. فالفرد يحاول دائما إظهار آرائه وكأنها موضوعية وتستند إلى الوقائع, لكنه في الحقيقة, يقدم تقويمه للأمورفي الغالب أي أنه يفضل, يختار, يعود إلى قيم معينة, ما يحبه, ما يؤمن به ما يعتبره عادلا أو غير عادل...الخ. إن الفرد يحاول دائما الإستناد إلى حقائق موضوعية لكن رأيه يبقى في كل الأحوال تقويما لهذه الحقائق أو الوقائع وليس سردا لها. أي أن الرأي فيه دائما شئ ذاتي, وتختلف درجات وعي ذاتية الرأي وطابعها التقويمي بحيث يعتبر أن هذا الوعي يزداد مع إزدياد الإقتناع بحدود المعرفة عن الموضوع أو الكفاءة في تقويمه. ويتضاءل الوعي لذاتية الرأي مع إقتراب هذا الأخير من المسائل التي تهمه مباشرة أو تمس حياته الشخصية, ولكن على الرغم من الوعي بإمكانية وجود ذاتية معينة في الرأي يصر الفرد دائما على تقديمه. وكأنه حقيقة مطلقة ومجرد تبنيه له يعني أنه مقتنع بصحة هذا الرأي.

الرأي إذا هو حكم على شيء, على شخص, على حادثة أو على معلومات معينة. وعلى الرغم من أن الوقائع والحقائق يمكن أن تشكل أحيانا مادة للآراء ومصادر لتكوينها أو تغييرها إلا أنها ليست آراء.

أما الرأي العام فهو يعتبر حصيلة أي معدلا إحصائيا أو مجموعة عناصر مشتركة لمجموع الآراء الفردية في مجتمع معين. وإذا كانت هناك حصيلة للآراء الفردية فهذا يعني أنه يوجد عوامل موضوعية خارجة عن إرادة الأفراد تكّون الآراء الفردية وبالتالي الرأي العام.

1- مصادر تكوين الآراء

تركز الأبحاث على طرح لائحة من العناصر التي تعتبر مؤثرة في تكوين الآراء الفردية, ويصار إلى تحديد أهمية كل عنصر من هذه العناصر وكيفية تأثيرها في تكوين الآراء الفردية. وهذه العناصر هي بالطبع أيضا العوامل التي تؤثر في تكوين الرأي العام لأن الرأي العام ليس إلا التعبير عن ىراء أكثرية الأفراد. ونعرض هنا بعض هذه العوامل التي تعتبر فاعلة في تكوين الآراء, وهي تقسم إلى نوعين:

أ‌- العوامل الفردية:منها الدوافع الفردية وطبيعة شخصية الفرد ومستوى الطموح عنده.. كالتأكيد على أن المراهقين أكثر تطرفا في آرائهم, أو أن المواقف الفاشية والمتعصبة والآراء العنصرية تفسرها العقد النفسية والأزمات الشخصية. ومستوى المعرفة أيضا عند الفرد أي المعلومات والتجارب التي يملكها حول هذه أو تلك من الموضوعات والتي تؤثر في تبني آرائه حول هذا الموضوع. ويمكن ذكر دراسة العالم الألماني "أدورنو" مثلا حول "الشخصية المستبدة" في المجتمع الألماني في الخمسينات فقد حاول أن يثبت أن هناك نوعا من الشخصيات هي بطبيعتها متسلطة وتتميز بالجمود الفكري والتعصب وثقة كبيرة في النفس ويعتبر أدورنو أن هذا النوع من الشخصية يميل إلى إتخاذ مواقف محافظة جدا ومتطرفة ومساندة للديكتاتورية. وهذه الدراسة ليست إلا نموذجا من منهج عام في الأبحاث يحاول تفسير آراء الأفراد وتصرفاتهم السياسية من خلال طبيعة الشخصية ومشاكلها وعقدها النفسية وبشكل خاص شخصيات الزعماء السياسيين التي يسمح تحليلها النفسي بتفسير المواقف السياسية لهؤلاء الزعماء.

ب- العوامل الإجتماعية: منها تأثير الأفراد من خلال العلاقات الشخصية أو تأثير فرد مميز هو القائد أو الزعيم أو البطل, ومنها ضغط الجماعة او ما يسمى بضغط التماثل الذي يدفع الفرد ان تبني اراء المجموعة التي ينتمي اليها. ومنها تأثير التربية وتأثير المركز او الدور الاجتماعي للفرد. واخيرا تأثير العوامل الاجتماعية المختلفة, منها : الظروف التاريخية, العوامل الاقتصادية, والاحداث المختلفة التي يعايشها الافراد وهي تؤثر في تكوين ارائهم او تغييرها.

ونستطيع هنا ابراز نقاط كثيرة حول هذا المنهج في طرح موضوع الرأي ومصادر تكوينه. ان تعريف الرأي والرأي العام يظهر بشكل واضح الخلفية النظرية للعلاقة بين الفرد والجماعة, فهو يعطي الاولوية ( في الاهمية وفي الزمان ) للفرد وتعتبر الاراء الجماعية مجرد حصيلة احصائية للاراء الفردية. اما فيما يتعلق بمصادرتكوين الاراء, فعلى الرغم من الاشارة الى العوامل الاجتماعية واهميتها تبقى الاولوية للفرد لانه يتم التركيز دائما على العوامل الفردية. ومن ناحية اخرى لا تستطيع الابحاث كشف ما هو أساسي وما هو ثانوي في العوامل المختلفة, فتبقى ردة فعل كل فرد من الافراد على مختلف العوامل والطريقة التي يتأثر بها هي الحاسمة في تحديد اهمية هذا العامل او ذاك في تكوين الاراء.

اما فيما يتعلق بالمنهج الذي يقود الابحاث حول تكوين الاراء فهو المنهج نفسه السائد في

جميع أبحاث علم الإجتماع الغربي. ذلك أنه يبدأ بتجزيء الظاهرة الى عناصرها المختلفة ويدرس كل عنصر من هذه العناصر على حدة (لأن الظاهرة معقدة ولا يمكن دراستها بشكل دقيق إلا بعد تفتيتها إلى مختلف أجزائها ). من ناحية أخرى تختزل هذه الظاهرة ومختلف العناصر التكوينية فيها إلى تعبيراتها الخارجية الشكلية (لأن بحث أي عنصر غير قابل للقياس الدقيق سيؤدي إلى نتائج ذاتية ويحد من موضوعية البحث ومدى علميته).

يقول ميلز في نقده للمنهج التجريبي السائد في علم الإجتماع الأمريكي أن تطور علم الإجتماع أصبح شبيها "بألعاب البناء" التربوية أي أنه يسود الإعتقاد أننا سنستطيع في المستقبل تجميع الأبحاث المتكاملة وتراكمها حتى تصبح بناء متكاملا أي كما يفعل الأطفال حين يبنون البيوت من قطع خشبية يرصفونها فوق بعضها. ويتابع ميلز قائلا " إن هذا التجميع للمعلومات لا يستطيع أبدا أن يجيب عن الأسئلة الفعلية التي يطرحها الواقع الإجتماعي لأن مجرد تجميع معلومات تفصيلية حول هذا أو ذاك من أجزاء ظاهرة إجتماعية معينة لا يستطيع أن يبني نظرية عامة تفسيرية لهذه الظاهرة فالدراسات الجزئية لن تعطي إلا مواد إعلامية فتكثر مراكز الأبحاث وتتعدد الموضوعات والمشاكل الجزئية دون أن نرى أي صلة فيما بينها".

نرى مثلا في موضوعات علم الإجتماع الأكثر رواجا كموضوعات الدعاية ووسائل الإعلام الجماعية والرأي العام أن الدراسات تنحصر بالبنى الأمريكية الحالية التي لا تعود إلى أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة أي أنها تنحصر في حدود تاريخية وبنيوية ضيقة جدا فتتوصل مثلا إلى تصنيف دقيق للأفراد الذين يستخدمون وسائل الإعلام الجماعية. زتدرس بشكل دقيق التصرف الإنتخابي وتصنيف مئات الناخبين حسب الأسباب المباشرة التي تفسر إختياراتهم لكنها لا تستطيع التوصل إلى تحليل علمي شامل لوسائل الإعلام الجماعية كما أنها لا تتطرق بأي شكل من الأشكال إلى النظام السياسي الذي يعتبر لعبة الإنتخابات جزءا منه أو إلى آلية الأحزاب السياسية ودورها الفعلي أو أي مؤسسة من المؤسسات السياسية في ديناميتها الداخلية. وهنا يلحظ ميلز تعافت هذا المنهج فيرى الباحثين الأمريكيين بعيدين عن أي مشكلة من المشاكل الفعلية للمجتمع الأمريكي ويكتفون بطرح المشاكل في الحدود التي تسمح بها لهم مناهجهم "الموضوعية" فهم ضحايا ما يمكن تسميته "بالإحباط المنهجي" دراساتهم تجمع التفاصيل دون إعطائها أي شكل اللهم إلا الشكل الذي يضعه الطابعون. وجميع هذه الدراسات لو وضعناها الواحدة تلو الأخرى لن نستطيع الإجابة عن المشاكل التي تتعلق بالبنى الإجتماعية أو دينامية السلطة أو التكيف الإجتماعي أو الإتجاهات السياسية ولن تطرح أي قوانين فعلية لتفسيرها.

2- قياس الاراء

تقنية قياس الاراء تخضع للتحديد النظري لمفهومي الرأي والرأي العام ( تقنيات اختيار العينة الممثلة لمختلف فئات المجتمع – تقنية المقابلة والاستبيان, التحليل الاحصائي... ). أي انه كان الرأي التزاما فرديا وتعبيرا عما يقتنع به الفرد يكفي أن نوجه الى الفرد بعض الاسئلة المباشرة أو غير المباشرة ونحاول وضعها وبشكل واضح ومفهوم لا يربك المجيب فنحصل على اجوبة يجب أن تكون هي ايضا واضحة ومفهومة وغير قابلة للتأويل من قبل الباحث.

وهكذا يكون الهدف من مفتاح تعلم تقينة الاستبيان ليس التقرب من الاراء الفعلية للافراد والتي ربما كانت معقدة ومتناقصة وغير واضحة – حتى بالنسبة اليهم احيانا – ولكن الوصول الى الوضوح والتبسيط حتى تصبح الاسئلة (المغلقة ) اي التي تقتصر فيها الاجابة على عدد محدود من الخيارات البسيطة والاجابة اما بنعم او لا. هذا هو نموذج الاستبيان العلمي غير النابل للتحليلات الذاتية والذي نسطيع ترجمته بالارقام والقياسات الكمية والجداول الاحصائية فنحصل على خريطة دقيقة لاراء الافراد. اما بالنسبة الى قياس الرأي العام فلا نستطيع بالطبع الوقوف على اراء جميع الافراد في مجتمع معين, كي نستنتج بعد ذلك المتوسط الاحصائي لهذه الاراء فيجب بالتالي وضع تقنيات وتحديد تصنيفات نظرية تحدد مدى تمثيل جزء من هؤلاء الافراد ( العينة ) لجميع افرد المجتمع الذي نريد معرفة ارائه.

هنا ايضا تخضع تقنيات تمثيل العينة اولا الى تصنيف الباحث لفئات المجتمع المختلفة والى تقديره لمدى انسجام اعضاء هذه الفئات فيما بينهما ( اي أن جزءا منها يمثل فعلا الجميع ) وطبعا للقدرة النظرية والتقنية الوصول الى هذا الجزء المختار. اي انه بكلمة أخرى, يجب على الباحث أن يمتلك أولا معرفة نظرية لجميع أفراد المجتمع المدروس, وما هي حاجاتهم وتطلعاتهم ومشاكلهم الفعلية. ثم عليه أن يحصل على إحصاءات دقيقة تسمح له بتصنيف الفئات المختلفة وتحديد العينة الممثلة لها. فإذا أخطأ في المعرفة النظرية وكيفية التصنيف أو إفتقد الإحصاءات الصحيحة والكاملة فإن قواعد التمثيل وبالتالي معرفة الرأي العام الفعلي تصبح قابلة للتشويه والتأويل. كما أنه يجب أيضا الإشارة إلى مشكلة الوصول إلى هذه العينة الممثلة وإمكانية إقناع أفرادها بالتعبير الصريح والكامل والواضح عن آرائها الفعلية.

وفي حال تم التقيد بجميع الشروط التقنية وتم التغلب على جميع المشكلات المطروحة, وبعد أن نجري التحليلات الإحصائية المعقدة على الأجوبة المختلفة, ونضع الجداول والخرائط الدقيقة, نعود إلى السؤال الأساسي وهو على ماذا حصلنا بواسطة هذه التقنيات الموضوعية الدقيقة؟ لقد رسمنا خريطة لأجوبة الأفراد عن أسئلة وضعها لهم باحثون ظنوا أنها تسمح لهم بالتعبير الفعلي عن آرائهم, وأجربنا عمليات رياضية وإحصائية بسيطة ومعقدة لما يفترض أن يمثل آراء أكثرية أفراد المجتمع وسميناها الرأي العام حول موضوع معين في هذا المجتمع أو داخل هذه الفئة أو تلك.

لقد إفترضنا أن الأفراد يعبرون دائما عن آرائهم الفعلية, وافترضنا أن الرأي العام هو تراكم ومتوسط لمختلف الآراء الفردية. وقد إفترضنا أن مدى الإنسجام بين أفراد المجتمع

( أي تمثيل جزء منهم للمجتمع) يحدد حسب تصنيف للفئات الإجتماعية وضعه الباحث وحدد بنفسه مقياسه وميزات كل فئة من الفئات المصنفة, أي أننا إعتبرنا أن الإنسجام في الرأي موجود داخل الفئات الإقتصادية أو الثقافية أو الجنسية أو العرقية أو الجغرافية...الخ, دون أن نستطيع تحديد أولوية هذا المقياس أو ذاك في مجال التصنيف الإجتماعي. أي أننا لم نحدد أي تصنيف من هذه التصنيفات يعكس بشكل أفضل التقسيمات الإجتماعية الفعلية حول هذا أو ذاك من الموضوعات المطروحة للبحث, وما هو مقياس التصنيف أصلا في تحديد العينة, وكيف يمكن الوثوق بالتبريرات المعطاة لهذا التصنيف؟ في الواقع هناك سلسلة لا نهائية من التساؤلات والإعتراضات التي يمكن أن تثار حول هذه المسألة. وعلى سبيل المثال نلاحظ ما كابده د. سعد الدين إبراهيم في دراسته عن ( اتجاهات الرأي العام العربي نحو مسألة الوحدة..). فقد إعتبر حسب التحديد النظري لمفهوم الرأي العام الذي تبناه أن " المهتمين بمسألة الوحدة هم أساسا أولئك الذين أوتوا قدرا متوسطا أو عاليا من التعليم"... " فهؤلاء هم الذين يشتركون في صناعة القرارات... ويؤثرون في غيرهم من فئات المجتمع الأخرى".

لكنه إصطدم في الواقع بمعضلة تمثيل هذه الفئات في المجتمع, فأفرادها لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة من سكان الوطن العربي, لا تتعدى في معظم الأقطار العربية 30 بالمائة من السكان " ... أما أغلبية السكان, وهي من الفلاحين ( والبدو) والعمال ( في الإنتاج والخدمات) فهم جميعا من الأميين أو دون المتوسط من حي التعليم" .

وقد حاول حل المشكلة بتمثيل هذه الفئات في الدراسة لكن بنسب أدنى بكثير من عددها الفعلي داخل المجتمع. وتقرر أن يكون حجم العينات من هذه الفئات موحدا في كل الأقطار العربية بصرف النظر عن الثقل السكاني لكل قطر " نظرا لدرجة التجانس العالية بين كل من العمال والفلاحين( والبدو في بعض الأقطار) ".

نرى هنا كيف أن مشكلة إختيار العينة وتمثيلها ليست مشكلة تقنية بل هي أولا وأساسا مشكلة منهجية أيديولوجية تتعلق باختيارات الباحث النظرية والسياسية والثقافية وبالمفاهيم التي يتبناها والتي تبقى عرضة للنقد والرفض مهما بلغت التبريرات والمراجع والتعقيدات "العلمية" المستخدمة. لماذا يكون مقياس التصنيف في التمثيل مقياسا مهنيا؟ أو يكون المقياس مستوى التعليم؟ وأين ذهبت فئة النساء؟ هل هي أيضا هامشية في تكوين الرأي العام؟ أم أن مدى إنسجامها مع فئات الرجال كبيرة؟ ألا تمثل نسبة كبيرة من أعداد المجتمع؟ ..

من ناحية أخرى عندما نأخذ كل فئة من الفئات الإجتماعية الممثلة في العينة هل نتعامل مع المجتمع ككل وداخل كل فئة على أساس أفقي طبقي؟ وهل نعتبر أن الإنسجام في الرأي بين العمال أو بين الفلاحين أو بين الأطباء, يسمح لجزء منهم أن يمثل الجميع؟ فعندما نأخذ عينة تمثل طبقة العمال أو الأطباء أو الأساتذة يفترض أن العمال أو الأطباء أو الأساتذة يحملون آراء فردية مشتركة مما يسمح لعينة أن تمثل الجميع. ولكن كيف العمل في بلد مثل لبنان حيث تتداخل البنية الطائفية مثلا مع التصنيف المهني؟! هنا سنضطر إلى الدخول في تصنيف جديد وفي داخل كل فئة جديدة سنواجه مشكلة أخرى ومقياسا آخر لتصنيف فرعي جديد. وبهذا يصبح من المشروع لنا أن نطرح عشرات التساؤلات ونثير عشرات الإعتراضات حول مدى "علمية" هذه التقنية و "موضوعيتها" وقدرتها على إعطاء صورة صحيحة, أو حتى تقريبية, عن الواقع الإجتماعي المعطى والآراء الفعلية لمختلف فئات المجتمع.

http://www.najah.edu/index.php?news_id=5451&page=3171&l=ar

No comments:

Post a Comment